فصل: بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَاسْتِثْنَاؤُهُ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ خَمْسُونَ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْخَمْسِينَ عَلَى التِّسْعِمِائَةِ وَحُكْمُ الْمَعْطُوفِ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُسْتَثْنًى فَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ إذَا كَانَ يَبْقَى مَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ فَجَعَلَ الْكَلَامَ عِبَارَةً عَنْهُ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ وَالْبَاقِي وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَكَانَ مُقِرًّا بِهَا بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ مِمَّا تَنَاوَلَهُ كَلَامُهُ لِيَصِيرَ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَنْهُ فَيَكُونُ هَذَا رُجُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ لَا اسْتِثْنَاءً وَالرُّجُوعُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصْلُحُ مَوْصُولًا مَا يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْبَيَانِ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ وَالْإِبْطَالُ لَيْسَ مِنْ الْبَيَانِ فِي شَيْءٍ فَلَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا.
وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا فَالِاسْتِثْنَاءُ جَائِزٌ وَيَطْرَحُ مِنْ الْأَلْفِ قِيمَةَ الدِّينَارِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إلَّا فَلْسًا أَوْ كُرَّ حِنْطَةٍ أَوْ اسْتَثْنَى شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُعَدُّ عَدًّا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: إلَّا شَاةً أَوْ ثَوْبًا أَوْ عَرَضًا مِنْ الْعُرُوضِ فَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ صَحِيحٌ وَيَطْرَحُ عَنْهُ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مُوجَبِ الِاسْتِثْنَاءِ فَعِنْدَهُ مُوجَبُ الِاسْتِثْنَاءِ امْتِنَاعُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَثْنَى لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي الْعُمُومِ، فَإِذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمٌ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إلَّا دِرْهَمٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيَّ فَلَا يَلْزَمُ الدِّرْهَمُ لِلدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالِاسْتِثْنَاءِ الدَّعْوَتَيْنِ الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِهَا، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، وَلِأَنَّ وَضْعَهُ الْجُذُوعَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَنَى الْحَائِطَ لِحَاجَتِهِ إذَا وَضَعَ حِمْلَهُ عَلَيْهِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْعَلَامَةِ تُثْبِتُ التَّرْجِيحَ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ يَجْعَلُ مَا يَصْلُحُ لِلرَّجُلِ لِلرَّجُلِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ لِلْمَرْأَةِ وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ هَوَادِي أَوْ بَوَارِيٌّ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَهْلٍ مَقْصُودٍ بُنِيَ الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ التَّرْجِيحُ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ مِخْلَاةٌ عَلَّقَهَا لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّرْجِيحَ بِخِلَافِ الْجُذُوعُ فَإِنَّهُ حِمْلٌ مَقْصُودٌ يُبْنَى الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْيَدُ بِاعْتِبَارِهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ أَوْ اتِّصَالٌ وَلِلْآخِرِ بَوَارِيٌّ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ وَالِاتِّصَالِ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ وَلِلْآخِرِ اتِّصَالٌ فَصَاحِبُ الْجُذُوعِ أَوْلَى وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا مُدَاخَلَةُ أَنْصَافِ اللَّبِنِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاتِّصَالِ بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ اسْتِعْمَالٌ لِلْحَائِطِ وَالِاتِّصَالُ مُجَاوَرَةٌ وَالْيَدُ تَثْبُتُ بِالِاسْتِعْمَالِ دُونَ الْمُجَاوَرَةِ فَكَانَ صَاحِبُ الْجُذُوعِ أَوْلَى كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ وَأَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا فَالرَّاكِبُ أَوْلَى، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ صَاحِبَ الِاتِّصَالِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ فِي حُكْمِ حَائِطٍ وَاحِدٍ فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاتِّصَالِ فِي بَعْضِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِأَحَدِهِمَا فَيُرَدُّ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ مَعَ حَائِطِهِ فَمُدَاخَلَةُ أَنْصَافِ لِلَّبِنِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا عِنْدَ بِنَاءٍ لِحَائِطَيْنِ مَعًا فَكَانَ هُوَ أَوْلَى.
قَالَ فِي الْكِتَابِ إلَّا أَنْ يَكُونَ اتِّصَالَ تَرْبِيعِ بَيْتٍ أَوْ دَارٍ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ حِينَئِذٍ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ صِفَةُ هَذَا الِاتِّصَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَائِطُ الْمُتَنَازَعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا مُتَّصِلًا بِحَائِطَيْنِ لِأَحَدِهِمَا وَالْحَائِطَانِ مُتَّصِلَانِ بِحَائِطٍ لَهُ بِمُقَابَلَةِ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ حَتَّى يَصِيرَ مُرَبَّعًا شِبْهَ الْقُبَّةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْكُلُّ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَصَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ اتِّصَالُ جَانِبَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ بِحَائِطَيْنِ لِأَحَدِهِمَا، فَأَمَّا اتِّصَالُ الْحَائِطَيْنِ بِحَائِطٍ أُخْرَى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَقَعُ لَهُ يَكُونُ مِلْكُهُ مُحِيطًا بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِالِاتِّصَالِ بِجَانِبَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ مَوْضِعُ جُذُوعِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الِاتِّصَالِ بِالظَّاهِرِ، وَهُوَ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ عَلَى صَاحِبِ الْجُذُوعِ رَفْعَ جُذُوعِهِ، فَإِنْ (قِيلَ) لَمَّا قَضَى بِالْحَائِطِ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ الْآخَرَ بِرَفْعِ الْجِذْعِ؛ لِأَنَّهُ حِمْلٌ مَوْضُوعٌ لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ لِاسْتِحْقَاقِهِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ وَلِلْآخَرِ مِخْلَاةٌ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْحِمْلِ وَيُؤْمَرُ الْآخَرُ بِرَفْعِ الْمِخْلَاةِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمِخْلَاةِ عَلَى دَابَّةِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي الْأَصْلِ بِسَبَبٍ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِالدَّابَّةِ لِصَاحِبِ الْحِمْلِ أَمْرُ الْآخَرِ بِرَفْعِ الْمِخْلَاةِ فَأَمَّا هُنَا فَقَدْ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ وَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَى حَائِطٍ لِغَيْرِهِ بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ اسْتِحْقَاقُ رَفْعِ الْجُذُوعِ عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ وَقُضِيَ لَهُ بِهِ يُؤْمَرُ الْآخَرُ بِرَفْعِ جُذُوعِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا رَفْعَ جُذُوعِهِ عَنْ مِلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهِ فِي الْيَدِ حُكْمًا فَإِنَّهُ بِكَوْنِهِ بَيْنَ دَارَيْهِمَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ الْيَدُ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ عَشْرُ خَشَبَاتٍ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ خَشَبَةٌ وَاحِدَةٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ فِي الْخَشَبَةِ وَالْخَشَبَتَيْنِ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ.
وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ: الْحَائِطُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ عَشْرِ خَشَبَاتٍ إلَّا مَوْضِعَ الْخَشَبَةِ فَإِنَّهُ لِصَاحِبِهَا وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ بِمَوْضِعِ الْخَشَبَةِ يُثْبِتُ يَدَ صَاحِبِهَا عَلَيْهِ فَصَاحِبُ الْقَلِيلِ فِيهِ يَسْتَوِي بِصَاحِبِ الْكَثِيرِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي ثَوْبٍ عَامَّتُهُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَطَرَفٌ مِنْهُ فِي يَدِ الْآخَرِ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَوَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ لِصَاحِبِ الْعَشْرِ خَشَبَاتٍ عَلَيْهِ حِمْلٌ مَقْصُودٌ يُبْنَى الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْخَشَبَةِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لِأَجْلِ خَشَبَةٍ وَاحِدَةٍ عَادَةً وَإِنَّمَا يُنْصَبُ لِأَجْلِهَا أُسْطُوَانَةُ فَكَانَ صَاحِبُ الْعَشْرِ خَشَبَاتٍ أَوْلَى بِهِ كَمَا فِي الدَّابَّةِ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ مَقْصُودٌ وَلِلْآخَرِ مِخْلَاةٌ يُقْضَى بِهَا لِصَاحِبِ الْحِمْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ خَشَبَةَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْخَشَبَاتِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ يَسْتَحِقُّ بِهِ رَفْعَ الْخَشَبَةِ عَلَى الْآخَرِ وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ وَضْعِ الْخَشَبَةِ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِلْكُ فِيمَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَأَمَّا مَا بَيْنَ الْخَشَبَاتِ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِأَيِّهِمَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ قَالَ يُقْضَى بِالْكُلِّ بَيْنَهُمَا عَلَى إحْدَى عَشَرَ سَهْمًا عَشَرَةٌ لِصَاحِبِ الْخَشَبَاتِ وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ الْخَشَبَةِ الْوَاحِدَةِ اعْتِبَارًا لِمَا بَيْنَ الْخَشَبَاتِ بِمَا هُوَ تَحْتَ كُلِّ خَشَبَةٍ مِنْ الْحَائِطِ وَأَكْبَرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ الْعَشْرِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعَلَيْهِ كُرُّ حِنْطَةٍ وَقَفِيزُ شَعِيرٍ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْكَلَامَ مَوْصُولٌ، وَفِي حَقِّ الشَّعِيرِ إنَّمَا اسْتَثْنَى بَعْضَ مَا أَقَرَّ بِهِ فَيَكُونُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ بَدَأَ بِاسْتِثْنَاءِ الشَّعِيرِ، فَقَالَ: إلَّا قَفِيزَ شَعِيرٍ وَكُرَّ حِنْطَةٍ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ اسْتِثْنَاؤُهُ كُرَّ حِنْطَةٍ بَاطِلٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ، وَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الشَّعِيرِ وَمَتَى تَخَلَّلَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَلَامٌ لَغْوٌ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَصْلُ وَالْكَلَامُ اللَّغْوُ فَاصِلٌ بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ أَوْ أَبْلَغُ مِنْهُ فَإِنَّ التَّكَلُّمَ بِاللَّغْوِ إعْرَاضٌ عَنْ الْجِدِّ، وَلَيْسَ فِي السُّكُوتِ إعْرَاضٌ، وَهَذَا بَاطِلٌ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ قَالَ: لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَحُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ الثَّانِيَ لَغْوٌ فَصَارَ فَاصِلًا وَعِنْدَهُمَا الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحٌ لِكَوْنِ الْكَلَامِ مَوْصُولًا ظَاهِرًا.
وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِفُلَانٍ مِائَتَا دِينَارٍ إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزًا مِنْ الدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُقَرُّ لَهُ إذَا كَانَ مُخْتَلِفًا فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي وَصَلَهُ بِهِ وَإِنَّمَا وَصَلَ الِاسْتِثْنَاءَ بِالدَّنَانِيرِ هُنَا وَاسْتِثْنَاءُ أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مِائَتَيْ دِينَارٍ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ بِطَرِيقِ الْمُسْتَثْنَى الْمُعَيَّنِ.
وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَلَا هُوَ رَاجِعٌ إلَى تَأْكِيدِ الْإِقْرَارِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ بِالسَّكْتَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ ذَكَرَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ تَهْلِيلًا أَوْ تَكْبِيرًا أَوْ تَسْبِيحًا لِأَنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ لَيْسَتْ مِنْ الْإِقْرَارِ فِي شَيْءٍ فَيَتَحَقَّقُ الْفَصْلُ بِهَا كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالسُّكُوتِ وَشَرْطُ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَصْلُ.
وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ يَا فُلَانُ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزًا لِأَنَّ قَوْلَهُ يَا فُلَانُ نِدَاءٌ لِلْمُخَاطِبِ لِيُنَبِّهَهُ فَيَسْتَمِعَ كَلَامَهُ فَكَانَ كَلَامُهُ رَاجِعًا إلَى تَأْكِيدِ الْإِقْرَارِ فَلَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ.
وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَاشْهَدُوا عَلَيَّ بِذَلِكَ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى أَلْفٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ كَلَامٌ آخَرُ أَعْقَبَ الْإِقْرَارَ بِهِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، وَهُوَ الْفَاءُ وَلَوْ عَطَفَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِحَرْفِ الْوَاوِ كَانَ فَاصِلًا بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَعْقَبَهُ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُفِيدٌ مَفْهُومُ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ تَابِعًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ بَلْ يَصِيرُ فَاصِلًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا فُلَانُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَكَانَ مِنْ تَتِمَّةِ الْمُرَادِ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَلَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.
وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَقَبَضْتهَا إيَّاهُ كَانَتْ عَلَيْهِ الْأَلْفُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَقَبَضْتهَا صِفَةُ الْعَشَرَةِ وَقَوْلَهُ إلَّا عَشَرَةً ظَاهِرُهُ اسْتِثْنَاءُ الْعَشَرَةِ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا أَصْلًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ فِي الْحَالِ لِسُقُوطِهَا عَنْهُ بِالْقَضَاءِ فَكَانَ بَيَانُهُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ أَقَبَضْتهَا مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ فَيَصِحُّ مِنْهُ، وَإِذَا صَحَّ كَانَ مِنْهُ دَعْوَى الْقَضَاءِ فِي الْعَشَرَةِ وَدَعْوَى الْقَضَاءِ مِنْهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ سَوَاءٌ ادَّعَاهُ فِي بَعْضِ الْمَالِ أَوْ فِي كُلِّهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ هُنَا لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى أَصْلُ الْوُجُوبِ فِيمَا زَعَمَ أَنَّهُ قَضَاهُ مِنْ الْمَالِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قَدْ أَقَبَضْتهَا إيَّاهُ؛ لِأَنَّ حَرْفَ قَدْ حَرْفُ التَّأْكِيدِ فَدَعْوَاهُ الْقَضَاءَ فِي الْعَشَرَةِ مَعَ حَرْفِ التَّأْكِيدِ وَبِدُونِ حَرْفِ التَّأْكِيدِ سَوَاءٌ وَلَوْ قَالَ: إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَقَدْ أَقَبَضْتُهَا إيَّاهُ كَانَ عَلَيْهِ الْأَلْفُ إلَّا عَشَرَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَقَدْ أَقَبَضْتُهَا كَلَامٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسْتَثْنَى فَلَا يَكُونُ لِلْمُسْتَثْنَى إذْ لَيْسَ بَيْنَ الْوُصُوفِ وَالْمُوَصَّفِ حَرْفُ الْعَطْفِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ دَعْوَى الْقَضَاءِ فِي أَصْلِ الْمَالِ فَيَبْقَى اسْتِثْنَاؤُهُ الْعَشَرَةَ صَحِيحًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْعَطْفِ هُنَاكَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ، وَذَكَرَ الْقَضَاءَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إذَا قَالَ: زَيْدٌ عَالِمٌ كَانَ صِفَةً لِزَيْدٍ، وَإِذَا قَالَ: زَيْدٌ وَعَالِمٌ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ وَعَالِمٌ صِفَةً لِزَيْدٍ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمَوْصُوفِ.
وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا دِرْهَمًا أَقَبَضْتُهَا إيَّاهُ كَانَتْ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَقَبَضْتُهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلْمُسْتَثْنَى فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ حَرْفَ التَّأْنِيثِ فَيَكُونُ صِفَةً لِمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَةِ التَّأْنِيثِ وَالْمُسْتَثْنَى يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَةِ التَّذْكِيرِ فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ أَقَبَضْتهَا دَعْوَى الْقَضَاءِ مِنْهُ فِي أَصْلِ الْمَالِ فَبَقِيَ اسْتِثْنَاؤُهُ الدِّرْهَمَ صَحِيحًا.
وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ غَيْرَ دَانَقٍ مِنْ ثَمَنِ بَقْلٍ قَدْ أَقَبَضْتُهُ إيَّاهُ كَانَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ قَدْ أَقَبَضْتُهُ صِفَةٌ لِلدَّانِقِ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ فَكَانَ هَذَا مِنْهُ دَعْوَى الْقَضَاءِ فِي الدَّانِقِ لَا الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَزِمَهُ دِرْهَمٌ، وَقَالَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ إلَّا دَانِقًا قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا أَقْرَبُ إلَى وِفَاقِ مَا اعْتَلَّ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: لِأَنَّهُ قَطَعَ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَبَيْنَ الْقَضَاءِ بِكَلَامٍ فَصَارَ الْقَضَاءُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ دَعْوَى الْقَضَاءِ إنَّمَا يَصِيرُ صِفَةً لِلدَّانِقِ إذَا وَصَلَهُ بِهِ، وَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ آخَرُ هُنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ مِنْ ثَمَنِ بَقْلٍ فَصَارَ دَعْوَى الْقَضَاءِ مِنْهُ عَلَى دِرْهَمٍ وَبِهَذَا التَّعْلِيلِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَوَابَ الصَّحِيحَ مَا ذَكَرَهُ فِي نُسَخِ أَبِي بِهِ شَيْئًا، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَقْطَعَ الْجُذُوعَ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ كَذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لِذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ نَفْسُ الْجُذُوعِ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لِصَاحِبِهَا فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَقْطَعَهَا إلَّا بِحُجَّةِ وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً كَذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ جُذُوعًا لَا يَحْمِلُ عَلَى مِثْلِهَا شَيْئًا إنَّمَا هُوَ أَطْرَافُ جُذُوعٍ خَارِجَةٍ فِي دَارِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهَا لِأَنَّ عَيْنَ الْجُذُوعِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِعَيْنِهَا إنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا فَمَا لَا يُبْنَى عَلَى مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَكَانَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَقْطَعَهَا وَمَا يُبْنَى عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِسَبَبٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ قَطْعُهَا مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ أَحْدَثَ نَصْبَهَا غَصْبًا.
قَالَ: وَإِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَالْعُلْوُ لِآخَرَ فَانْهَدَمَ لَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَاءِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَلَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْمِلْكِ عَلَى بِنَاءِ مِلْكِهِ فَلَهُ حَقُّ التَّدْبِيرِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ كَإِنْشَاءِ بَيْعٍ أَوْ بِنَاءٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ صَاحِبُ السُّفْلِ هُوَ الَّذِي هَدَمَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِالْهَدْمِ لِمَا لِصَاحِبِ الْعُلْوِ فِي بِنَاءِ السُّفْلِ مِنْ حَقِّ قَرَارِ الْعُلْوِ عَلَيْهِ فَيُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ بِحَقِّهِ كَالرَّاهِنِ إذَا قَبِلَ الْمَرْهُونَ أَوْ الْمَوْلَى قَبِلَ عَبْدَهُ الْمَدْيُونَ، فَأَمَّا عِنْدَ الِانْهِدَامِ لَمْ يُوجَدْ مِنْ صَاحِبِ السُّفْلِ فِعْلٌ هُوَ عُدْوَانٌ، وَلَكِنْ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ، ثُمَّ يَبْنِيَ عَلَيْهِ الْعُلْوَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى بِنَاءِ مِلْكِهِ إلَّا بِبِنَاءِ السُّفْلِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَطَرَّقَ بِبِنَاءِ السُّفْلِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى حَقِّهِ، ثُمَّ يَمْنَعَ صَاحِبَ السُّفْلِ مِنْ أَنْ يَسْكُنَ سُفْلَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَى صَاحِبِ الْعُلْوِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى بِنَاءِ السُّفْلِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ وَالْبِنَاءُ مِلْكُ الثَّانِي فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْبِنَاءِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهُ عَلَيْهِ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ بِمَا أَنْفَقَ فِي بِنَاءِ السُّفْلِ وَوَجَّهَهُ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي هَذَا الْإِنْفَاقِ شَرْعًا فَيَكُونُ كَالْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ صَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّ لِلشَّرْعِ عَلَيْهِ وِلَايَةً وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُهُ فَيَتَمَلَّكُهُ عَلَيْهِ صَاحِبُ السُّفْلِ بِقِيمَتِهِ كَثَوْبِ الْغَيْرِ إذَا انْصَبَغَ بِصِبْغِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ يُعْطِي صَاحِبَ الثَّوْبِ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِي الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ مِلْكُ صَاحِبِ الصِّبْغِ فِي ثَوْبِهِ، وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ السُّفْلَ كَالْمَرْهُونِ فِي يَدِ صَاحِبِ الْعُلْوِ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ صَاحِبِ السُّفْلِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِسُفْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ.
قَالَ: وَلَوْ كَانَ بَيْتٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَوْ دَارٌ فَانْهَدَمَتْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَهُ عَلَى الْبِنَاءِ لِأَنَّ تَمْيِيزَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ بِقِسْمَةِ السَّاحَةِ مُمْكِنٌ، فَإِنْ بَنَاهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي هَذَا الْبِنَاءِ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ مُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ بِالْقِسْمَةِ لِيَبْنِيَ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ.
وَكَذَلِكَ الْحَائِطُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جُذُوعٌ؛ لِأَنَّ أُسَّ الْحَائِطِ مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ نَحْوَ الْحَائِطِ الْمَبْنِيِّ بِالْخَشَبَةِ فَحِينَئِذٍ يُجْبَرُ أَحَدُهُمَا عَلَى بِنَائِهِ، وَإِذَا بَنَاهُ أَحَدُهُمَا مُنِعَ صَاحِبُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ وَامْتَنَعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْحَائِطِ جُذُوعٌ لَهُمَا فَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَهُ عَلَى الْمُسَاعَدَةِ مَعَهُ فِي بِنَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ عَلَى ذَلِكَ بَنَاهُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ وَضْعِ جُذُوعِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ حِصَّتِهِ مِنْ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ حَيْثُ وَضَعَ الْجُذُوعَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَبْطُلُ بِقِسْمَةِ أُسِّ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْجُذُوعُ عَلَى الْحَائِطِ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ أَنْ يُبَيِّنَ الْحَائِطَ وَلَا يُشَاجِرَ صَاحِبَهُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِقِسْمَةِ الْحَائِطِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ وَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَى نَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُطَالِبُ بِالْقِسْمَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِسْمَةِ كَانَ لِحَقِّهِ، وَقَدْ رَضِيَ هُوَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ وَصَارَ هُوَ فِي حَقِّ الْآخَرِ كَأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ.
وَكَذَلِكَ الْحَمَّامُ الْمُشْتَرَكُ إذَا انْهَدَمَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ السَّاحَةِ مُمْكِنٌ، فَإِذَا بَنَاهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ.
قَالَ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ بَابٌ مِنْ دَارِهِ فِي دَارِ رَجُلٍ فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ فِي دَارِهِ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الدَّارِ فَصَاحِبُ الْبَابِ هُوَ الْمُدَّعِي لِلطَّرِيقِ فِي دَارِ الْغَيْرِ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ وَرَبُّ الدَّارِ هُوَ الْمُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَبِفَتْحِ الْبَابِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ رَفْعُ جُزْءٍ مِنْ الْحَائِطِ وَلَوْ رَفَعَ جَمِيعَ حَائِطِهِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ شَيْئًا فَكَذَلِكَ إذَا فَتَحَ بَابًا، وَقَدْ يَكُونُ فَتْحُ الْبَابِ لِدُخُولِ الضَّوْءِ وَالرِّيحِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِئْنَاسِ بِالْجَارِ وَالتَّحَدُّثِ مَعَهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى طَرِيقٍ لَهُ فِي الدَّارِ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ يَمُرُّ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِيَدٍ كَانَتْ لَهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ فِيمَا مَضَى وَبِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي شَيْئًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّا لَوْ عَايَنَّاهُ مَرَّ فِيهِ مَرَّةً لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ لَهُ فِيهَا طَرِيقًا ثَابِتًا فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَالطَّرِيقُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي دَارِ الْجَارِ فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى إثْبَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا الطَّرِيقَ، وَلَمْ يُسَمُّوا ذَرْعَ الْعَرْضِ وَالطُّولِ بَعْدَ أَنْ يَقُولُوا إنَّ لَهُ طَرِيقًا فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إلَى بَابِ الدَّارِ فَالشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ تَأْوِيلُهُ إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْخَصْمِ بِذَلِكَ فَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، فَأَمَّا إذَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: الْإِقْرَارُ وَالشَّهَادَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ مَاضٍ وَمَا كَانَ مَاضِيًا فَلَيْسَ بِمُتَيَقَّنٍ عِنْدَهُ فِي الْحَالِ لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ إيَّاهُ وَاسْتِيفَائِهِ مِنْهُ تَبَرَّأَ مِنْ مَالِهِ أَوْ تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِالْقَضَاءِ عَنْهُ أَوْ لِمُفْسِدٍ يُمْكِنُ فِي أَصْلِ السَّبَبِ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْمَالِ بِهِ، وَكَانَ قَوْلُهُ فِيمَا أَعْلَمُ اسْتِثْنَاءً لِلْيَقِينِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي عِلْمِي وَإِنْ قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ لَهُ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالِاتِّفَاقِ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالْفَرْقُ هُنَا أَنَّ حَرْفَ قَدْ لِلتَّأْكِيدِ فَقَدْ أَكَّدَ عِلْمَهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَأْكِيدًا لِإِقْرَارِهِ وَالشَّاهِدُ لَوْ قَالَ: قَدْ عَلِمْت فَأَنَا أَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمَا قَدْ عَلِمْت لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْحًا فِي شَهَادَتِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ قَدْحًا فِي إقْرَارِهِ.
وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِيمَا أَظُنُّ أَوْ فِيمَا ظَنَنْتُ أَوْ فِيمَا أَحْسَبُ أَوْ فِيمَا حَسِبْتُ أَوْ فِيمَا أَرَى أَوْ فِيمَا رَأَيْتُ فَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إنَّمَا تُذْكَرُ فِي الْعَادَةِ لِبَيَانِ شَكِّهِ فِيهِ وَاسْتِثْنَاءِ بَقِيَّةٍ وَفَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِ فِيمَا رَأَيْتُ أَوْ حَسِبْتُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِيمَا قَدْ عَلِمْتُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعِلْمِ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُتَيَقَّنُ بِهِ بِخِلَافِ الْحُسْبَانِ وَالظَّنِّ وَالرُّؤْيَةِ فَقَدْ يَتَرَاءَى شَيْءٌ لِلْإِنْسَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ كَالظَّمْآنِ يَرَى السَّرَابَ مِنْ بَعِيدٍ فَيَتَرَاءَى أَنَّهُ مَاءٌ وَلَا حَقِيقَةَ لِذَلِكَ.
وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي شَهَادَةِ فُلَانٍ أَوْ فِي عِلْمِ فُلَانٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا تُذْكَرُ لِبَيَانِ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا يَشْهَدُ بِهِ فُلَانٌ أَوْ يَعْلَمُهُ وَيَكُونُ هَذِهِ إنْكَارًا لَا إقْرَارًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ بِشَهَادَتِهِ أَوْ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ وَلَا يَتَحَقَّقُ إلْصَاقٌ بِشَهَادَةِ فُلَانٍ وَعِلْمِهِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِهِ فَكَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ مُؤَكِّدًا لِذَلِكَ بِعِلْمِ فُلَانٍ وَشَهَادَتِهِ.
وَإِنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ أَوْ بِقَوْلِهِ أَوْ بِحِسَابِهِ أَوْ فِي حِسَابِهِ أَوْ فِي كِتَابَتِهِ أَوْ فِي كِتَابِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فُلَانٍ لَا أَثَرَ لَهُ فِي وُجُوبِ الْمَالِ وَلَا حِسَابِهِ فَمَقْصُودُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَيَانُ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ فُلَانٌ وَيَحْسَبُهُ وَيَكْتُبُ بِهِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وَالْعِلْمِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِمَّا يُؤَكَّدُ بِهَا الْوَاجِبُ، وَالْعِلْمُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُتَيَقَّنُ بِهِ فَلِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَلَوْ قَالَ: بِصَكِّهِ أَوْ فِي صَكِّهِ أَوْ فِي صَكٍّ، وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى أَحَدٍ فَالْمَالُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الصَّكَّ اسْمٌ خَالِصٌ لِمَا هُوَ وَثِيقَةٌ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ فَهَذَا مِنْهُ تَأْكِيدٌ لِمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْمَالِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فِي سِجِلٍّ أَوْ سِجِلِّهِ كَانَ الْمَالُ لَازِمًا لَهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فِي كِتَابٍ أَوْ مِنْ كِتَابٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَوْ مِنْ حِسَابٍ أَوْ فِي حِسَابٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ يُذْكَرُ لِبَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ وَبَيَانِ الْمَحَلِّ الَّذِي أُثْبِتَ فِيهِ وُجُوبُ الْمَالِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ قَدْحًا فِي إقْرَارِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ صَكٌّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ كِتَابٌ أَوْ حِسَابٌ بِأَلْفٍ لَزِمَهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ وَلَا يَتَحَقَّقُ إلْصَاقُ الْأَلْفِ بِالصَّكِّ وَالْكِتَابِ وَالْحِسَابِ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِهِ.
وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ شَرِكَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَوْ مِنْ شَرِكَةِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَوْ مِنْ تِجَارَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَوْ مِنْ خُلْطَةٍ لَزِمَهُ الْأَلْفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَلَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُ الْأَلْفِ مِنْ الشَّرِكَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالْخُلْطَةِ بَيْنَهُمَا إلَّا بَعْدَ وُجُوبِهَا.
وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي قَضَاءِ فُلَانٍ، وَهُوَ قَاضٍ أَوْ فِي فُلَانٍ الْفَقِيهِ أَوْ هُنَا أَوْ فِي فِقْهِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي قَضَاءِ فُلَانٍ كَقَوْلِهِ فِي شَهَادَةِ فُلَانٍ أَوْ فِي عِلْمِ فُلَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ بَيَانُ الْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا فِي عِلْمِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَقَوْلُهُ شَهَادَةٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ بِقَوْلِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ قَوْلُهُ، فَإِنْ قَالَ: بِقَضَاءِ فُلَانٍ وَفُلَانٌ قَاضٍ يَلْزَمُهُ الْمَالُ كَقَوْلِهِ بِشَهَادَةِ فُلَانٍ وَبِعِلْمِهِ لِأَنَّهُ أَلْصَقَ الْقَضَاءَ بِالْمَالِ فَالْمَالُ الْمَقْضِيُّ بِهِ لَا يَكُونُ إلَّا وَاجِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ قَاضِيًا، فَقَالَ الطَّالِبُ حَاكَمْته إلَيْهِ فَقَضَى لِي عَلَيْهِ لَزِمَهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْحَكَمِ فِي حَقِّ الْخَصْمَيْنِ كَقَضَاءِ الْقَاضِي فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً فَكَانَ قَوْلُهُ بِقَضَائِهِ بَيَانًا لِتَأْكِيدِ الْمَالِ عَلَيْهِ بِهَذَا السَّبَبِ، وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُحَاكِمْهُ إلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَصِبْ قَاضِيًا فِي حَقِّهِمَا قَطُّ فَلَا يَكُونُ قَضَاؤُهُ مُلْزِمًا إيَّاهُ شَيْئًا فَهَذَا وَقَوْلُهُ يَقِينُ فُلَانٍ سَوَاءٌ.
وَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي ذِكْرِهِ أَوْ بِذِكْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي حِسَابِهِ أَوْ بِحِسَابِهِ أَوْ فِي كِتَابِهِ أَوْ بِكِتَابِهِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ كِتَابَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُلْتَزَمٍ فَكَيْفَ يَلْزَمُ غَيْرَهُ وَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مِنْ سَلَمٍ أَوْ بِسَلَمٍ أَوْ بِسَلَفٍ أَوْ مِنْ سَلَفٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ وَالسَّلَمَ عِبَارَتَانِ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا أَخْذُ الْعَاجِلِ بِالْآجِلِ فَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَيَانًا لِسَبَبِ وُجُوبِ الْكُرِّ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ بِبَيْعٍ أَوْ لِبَيْعٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ بَيْعٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ إجَارَةٍ أَوْ بِإِجَارَةٍ أَوْ بِكَفَالَةٍ أَوْ لِكَفَالَةٍ أَوْ عَلَى كَفَالَةٍ لَزِمَ الْمَالُ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ بَيَانٌ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْمَالِ مِنْهُ، وَهُوَ سَبَبٌ صَحِيحٌ فَيَلْزَمُهُ الْمَالُ بِهِ.
وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا شَيْئًا يَلْزَمُهُ خَمْسُمِائَةٍ وَزِيَادَةٌ بِقَدْرِ مَا بَيْنَهُ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُسْتَثْنَى لَا تَكُونُ أَكْثَرَ مَا يَبْرَأُ مِنْ الْجَهَالَةِ فِي الْمُقَرِّ بِهِ فَكَمَا أَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الْمُسْتَثْنَى لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ مُثْبَتٌ وَالْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مُثْبَتٍ، فَإِذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مَعَ الْجَهَالَةِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ فِي بَيَانِ الْمُسْتَثْنَى سَوَاءٌ بَيَّنَهُ بِقَدْرِ النِّصْفِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْعَادَةِ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ وَأَنَّهُ إنَّمَا يُخْتَارُ الْعَادَةُ عَنْ الْوَاجِبِ بِذِكْرِ حَمْلِهِ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى أَقَلَّ مِنْ الْوَاجِبِ وَتَتَّضِحُ هَذِهِ الْعَادَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَإِنَّ قَوْلَهُ إلَّا شَيْئًا إنَّمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْقَلِيلِ عَادَةً فَهُوَ وَقَوْلُهُ إلَّا قَلِيلًا سَوَاءٌ فَلِهَذَا لَزِمَهُ خَمْسُمِائَةٍ وَزِيَادَةٌ وَلَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ سِوَى الرُّجُوعِ إلَى بَيَانِهِ بِخِلَافِ إلَّا تِسْعَمِائَةٍ فَإِنَّ هُنَاكَ نَصَّ عَلَى بَيَانِ قَدْرِ الْمُسْتَثْنَى وَلَا مَعْنَى لِلْعَادَةِ مَعَ النَّصِّ بِخِلَافِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ زُهَاءُ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ عِظَمُ أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ جُلُّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَهَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الْوَاجِبَ بِأَنَّهُ عِظَمُ الْأَلْفِ وَلَنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، وَقَدْرُ الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِ سِوَى الرُّجُوعِ إلَى بَيَانِهِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُقِرُّ كَانَ الْقَوْلُ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ إلَى وَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ، وَقَضَاءُ الْمَالِ مِنْ التَّرِكَةِ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا كَانَ بَيَانُهُ مَقْبُولًا فَكَذَلِكَ بَيَانُهُمْ بَعْدَهُ.
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالثِّيَابِ وَكُلِّ شَيْءٍ يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ.
وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَفِي قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ جَعَلَ الدِّرْهَمَ الْأَوَّلَ وَالْآخِرَ حَدًّا وَلَا يَدْخُلُ الْحَدُّ فِي الْمَحْدُودِ كَمَنْ يَقُولُ لِفُلَانٍ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ أَوْ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ لَا يَدْخُلُ الْحَائِطَانِ فِي الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يَدْخُلُ الْحَدَّانِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا هَذَا كَذَلِكَ فِي حَدٍّ هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ، فَأَمَّا فِيمَا لَيْسَ بِقَائِمٍ بِنَفْسِهِ فَلَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ حَدًّا إذَا كَانَ وَاجِبًا، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا يُتَصَوَّرُ حَدًّا لِمَا هُوَ وَاجِبٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْأَصْلُ مَا قَالَهُ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الْحَدَّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ وَمَا لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ ذِكْرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا إلَّا أَنَّ الْغَايَةَ الْأُولَى لَا بُدَّ مِنْ إدْخَالِهَا؛ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَاجِبٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ الثَّانِي بِدُونِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَسْتَدْعِي ابْتِدَاءً، فَإِذَا أَخْرَجْنَا الْأَوَّلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا صَارَ الثَّانِي هُوَ الِابْتِدَاءُ فَيَخْرُجُ هُوَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، ثُمَّ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ هَكَذَا بَعْدَهُ فَلِأَجْلِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ أَدْخَلْنَا فِيهِ الْغَايَةَ الْأُولَى وَلَا ضَرُورَةَ فِي إدْخَالِ الْغَايَةِ الثَّانِيَةِ فَأَخَذْنَا فِيهَا بِالْقِيَاسِ.
وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ كُرِّ شَعِيرٍ إلَى كُرِّ حِنْطَةٍ فَعَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كُرُّ شَعِيرٍ وَكُرُّ حِنْطَةٍ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ لِأَنَّ الْقَفِيزَ الْآخَرَ مِنْ الْحِنْطَةِ هُوَ الْغَايَةُ الثَّانِيَةُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَلْزَمُهُ الْكُرَّانِ.
وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّرَاهِمُ وَتِسْعَةُ دَنَانِيرَ وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ الدَّرَاهِمُ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَعَلَيْهِ الدَّرَاهِمُ وَتِسْعَةُ دَنَانِيرَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ عَلَيْهِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَتِسْعَةَ دَرَاهِمَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ هُنَا، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ هُوَ الْأَوَّلُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بَعْدَ هَذَا، فَقَالَ: وَكَذَلِكَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ سَوَاءٌ اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ أَوْ اتَّفَقَا فَهُوَ سَوَاءٌ وَالْوَاحِدُ مِنْ الْأَكْثَرِ هُوَ الْغَايَةُ فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ مَا يُنْتَقَصُ بِاعْتِبَارِ الْغَايَةِ عِنْدَهُ مِنْ الْأَفْضَلِ أَوْ آخِرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ وَإِحْدَى الْغَايَتَيْنِ لَمَّا صَارَ خَارِجًا وَجَبَ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِيهِ وَجَعْلُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْضَلِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ إلَّا الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَقَوْلُهُ مِنْ كَذَا إلَى كَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ مَا بَيْنَ كَذَا وَكَذَا فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.